من الشيخ رفعت لعصر البودكاست.. كتاب جديد يوثق قرنًا لدولة التلاوة المصرية

تختلف حكايات "سميعة القرآن" عن حكايات القصص والأساطير، فـ"سميعة القرآن" هم جمهور خاص ومتميز، يتذوقون تلاوة القرآن الكريم ويتفاعلون معها بعمق.
في القرن الماضي، وقبل انتشار التسجيلات والإذاعات القرآنية على نطاق واسع، كانت تلاوة القرآن تجري بشكل مباشر في المساجد، في بيوت العزاء والمناسبات الدينية، وفي المحافل الخاصة كان سميعة القرآن جزءًا أساسيًّا من تلك التلاوات.
في كتابه "مائة عام من حكايات المشايخ والسميعة"، يأخذنا الباحث محمد عاشور، إلى رحلة ماتعة في ذاكرة التلاوة المصرية الأصيلة، حيث تتقاطع الحكايات والنوادر مع المقامات والأصوات، وتنبعث روح الزمن الجميل من بين السطور.

ففي زاويةٍ من مقهى قديم، وبين دخان الأراجيل وهمسات الحاضرين، كان صوتٌ يعلو من مذياع عتيق... صوتٌ قادر على أن يوقف الزمن، ويرفع الأرواح إلى مدارات الذوق الرفيع. لم يكن مجرد صوت؛ بل كان الشيخ. وعلى الطرف الآخر، جلس السميعة، جمهور لا يصفق كثيرًا، لكنه يختزن في سكوته ألف حُكمٍ وتقييم!

الكتاب ليس سردًا تاريخيًّا بالمعنى التقليدي، بل هو أقرب إلى ألبوم صوتي مكتوب، يعجّ بالأسماء الكبيرة في سماء دولة التلاوة، مثل الشيخ أحمد ندا، والشيخ محمد رفعت، والشيخ علي محمود، والشيخ طه الفشني، والشيخ محمد عكاشة، والشيخ محمد سلامة والخمسة الكبار أصحاب المصحف المرتل في الإذاعة المصرية.. وغيرهم ممن شكّلوا وجدان المستمع المصري والعربي خلال قرن مضى.
كما يركز عاشور على ثقافة "السميعة"، وهم أولئك العشاق الحقيقيون للطرب، الذين يستمعون بوعي وذوق عالٍ، ويستحضرون الفن كطقس روحاني، لا كمجرد ترف، ساردًا نماذج منهم مثل: يسري الظايط، وأحمد خليل، وأحمد مصطفى كامل، وصفوت عكاشة وغيرهم.. ويروي لنا عبر فصول الكتاب كيف كان هؤلاء يتابعون حفلات المشايخ، ويفهمون دقائق الأداء، ويربّون آذانهم على الجمال الصوتي الأصيل.
يمزج الكاتب بين الحكي التاريخي والنوادر الشخصية، ما يجعل الكتاب خفيفًا في أسلوبه، عميقًا في مضمونه، يستدعي الطرب من زوايا لا يصلها التأريخ الأكاديمي الجاف، كما يعرض لبعض التحولات التي طرأت على الذوق الموسيقي العربي في ظل التطور التكنولوجي، وتغيّر أذواق الجمهور، وموضحًا كيف يمكن لهذه الحكايات أن تلهم الأجيال الحالية والقادمة.
ويدعو الكاتب في النهاية إلى المحافظة على الصوت، والقصة، والموقف، والدمعة، والتجلّي، تمامًا كما نُحافظ على المخطوطات والآثار؛ لأجل هذا الجيل ولأجل القادم؛ كي لا يتحول القرآن إلى صوت مألوف بلا أثر، وكي يبقى السمعُ بوابةً للقلب لا مجرد عادة يعتريها الملل.