«رسائل الشيخ دراز» تصل إلى باريس لتعيد إحياء إرث العالم الأزهري محمد عبدالله دراز
رسائل وأوراق متناثرة، مذكرات مكتوبة بخط اليد، وصور تذكارية مجمعة مع قراءة كلمات وخواطر قيّمة.. هكذا بدأ المشهد الأول للفيلم الوثائقي "رسائل الشيخ دراز"، الذي عُرض بالعاصمة الفرنسية باريس وسط حضور كبير، عن مسيرة العالم محمد عبد الله دراز، أحد أبرز علماء الأزهر الشريف في النصف الأول من القرن العشرين.
ففي عرض خاص بالعاصمة الفرنسية، تم عرض الفيلم بحضور السفير علاء يوسف سفير مصر بباريس، وعدد من أفراد عائلة العالم الأزهري محمد عبد الله دراز، فضلا عن كثير من المفكرين والشخصيات العامة الذين حضروا احتفاء بهذا العالم الجليل الذي أثرى بعلمه ونهجه أجيالا وراء أجيال.
يستعرض الفيلم، الذي حصد عدة جوائز، مسيرة الدكتور محمد عبد الله دراز بعد عقود من رحيله، وما تضمنته مؤلفاته من تأكيد على قيم صحيح الإسلام في إعلاء مفاهيم التسامح وقبول الآخر.

فبعد عقود من رحيله، تسعى حفيدته الكبرى نهى الخولي، وهي منتجة الفيلم، إلى إحياء إرثه من جديد. ومن خلال الرسائل والمذكرات والصور التي حفظها ابنه الأكبر فتحي، يُعيد الفيلم رسم ملامح حياة الدكتور دراز، ويُعيد تتبع مسار رحلته من قريته محلة دياي، إلى الإسكندرية، ثم إلى باريس، حيث أُوفد في مهمة علمية وألّف أطروحته للدكتوراه أثناء الحرب العالمية الثانية.
ومن خلال مذكراته، وذكريات عائلته عنه، وشهادات كل من تأثر برؤيته، ترسم نهى الخولي صورة جلية لمحمد عبد الله دراز، وتجمع خيوط حياة رجل لم تعرفه إلا من خلال حكايات الطفولة، كما توضح ملامح عالم جليل وداعية مخلص لأخلاق الإسلام القائمة على إعلاء مفاهيم التسامح.
تبدأ أحداث الفيلم من مسقط رأسه قرية محلة دياي بمحافظة كفر الشيخ حيث وُلد الدكتور دراز عام 1894. وتجمع نهى الخولي أفرادا من أربعة أجيال لعائلة دراز، أحفادا يدرسون أو يعملون في الخارج نراهم عبر شاشات الكمبيوتر، في محاولة لاستعادة صلتهم بجذور العائلة. الكل يدلي بتجربته الشخصية المباشرة أو غير المباشرة مع هذا العالم الجليل الذي أثر بشكل كبير على من عايشه ومن لم يره قط، ومع رب الأسرة الذي استطاع أن يربط 10 أبناء ببعضهم البعض، مما انعكس على أجيال متلاحقة للعائلة نفسها.
ويروى أحد أفراد العائلة أن الشيخ محمد عبد الله دراز انتقل في سن العاشرة إلى الإسكندرية والتحق بـمعهد الأزهر الذي أسسه والده عبد الله دراز بتكليف من الإمام محمد عبده، وذلك قبل أن يُوفد في بعثة من جامعة الأزهر إلى فرنسا عام 1936، حيث حصل على ليسانس الآداب، ثم نال درجة الدكتوراه بمرتبة الشرف العليا عام 1947 من جامعة السوربون. وفي باريس، يستعيد اثنان من أبنائه محسن وسامي ذكريات الطفولة، بين أهوال الحرب العالمية الثانية، وإصرار والدهما على تعليم بناته تعليما متكاملا.
وفي عام 1948، عاد الدكتور دراز من باريس إلى القاهرة وأصبح عضوا في هيئة كبار العلماء بالأزهر ودرّس تاريخ الأديان بجامعة القاهرة، وتفسير القرآن بدار العلوم، والأخلاق والفلسفة الإسلامية بجامعة الأزهر، ليأخذنا الفيلم إلى شهادات شخصيات من خارج العائلة من علماء دين وأساتذة ومفكرين استعرضوا أثر مؤلفاته وكتابه المرجعي "دستور الأخلاق في القرآن" عليهم. ويبرز شباب مصريون أثر خطبه على علاقتهم بالإيمان، ليُعيدوا بذلك إحياء إرث فكري وروحي ونهج إنساني مستنير تركه الدكتور دراز
وفي كتاباته، دعا العالِم الأزهري إلى فهم صحيح للإسلام يقوم على المحبة والتسامح والسلام. فمن ضمن كتاباته "النبأ العظيم"، و"الدين"، و"دستور الأخلاق في القرآن".. وخاض مسيرة حافلة أكاديميا توقفت بوفاته المفاجئة في لاهور، في باكستان، (يناير 1958)، قبل أيام من إلقائه محاضرة وعنوانها "موقف الإسلام من الأديان الأخرى وعلاقته بها".
ومن خلال شهادات العائلة والباحثين الذين تأثروا بكلماته، تتشكل صورة نابضة عن الشيخ دراز بالفيلم، وتنسج نهى الخولي، الحفيدة الكبرى، ملامح حياة الرجل الذي لم تلتق به قط، لكنها تؤمن بأن رسالته اليوم أشد أهمية وإلحاحا من أي وقت مضى.
عُرض الفيلم في منتصف نوفمبر الجاري في باريس ولاقى تفاعلا وإعجابا كبيرا من الحضور، لكن حتى الآن تتلقى نهى الخولي، رسائل "إيجابية" من أشخاص حضروا العرض، و"تأثروا بهذه الشخصية البارزة والملهمة". وخلال تواجدها بباريس، أعربت عن سعادتها البالغة لعرض الفيلم تحت رعاية السفير المصري علاء يوسف وحرمه، ووسط هذا الحضور الكبير.
وقالت الخولي في تصريحات لمراسلة وكالة أنباء الشرق الأوسط بباريس "سعيدة للغاية بردود الفعل الايجابية عن الفيلم.. لم أكن أتوقع هذا الإقبال.. شعرت أن الفيلم حقق غايته واطلع كل من شاهده على شخصية جديدة لم يكن يعرفها".
وأكدت أن عرض الفيلم في باريس له طابع خاص قائلة "اعتقدت دائما أن عرض الفيلم هنا مهم، حيث تعد فرنسا مكانا محوريا في حياة الدكتور دراز وحياة أبنائه الذين قضوا 12 عاما من حياتهم في فرنسا خلال الحرب العالمية الثانية.. وتعلموا دروسا كثيرة في الحياة وصلت لنا نحن الأحفاد اليوم.. لذا، فباريس مدينة محورية في حياة العائلة بأكملها".
وشددت على أن هذا الفيلم الوثائقي هو عمل جماعي من أفراد العائلة من أبناء وأحفاد محمد عبد الله دراز.. كل فرد قام بدور فعال حتى يخرج الفيلم إلى النور بهذا الشكل الجميل والمؤثر، بقيادة المخرجة المبدعة ماجي مرجان التي عملت كثيرا على هذا الفيلم وبذلت جهدا كبيرا خلال تصوير هذا الفيلم حتى يرى النور".
هذا الفيلم الوثائقي إخراج ماجي مورجان، وإنتاج نهى الخولي بالتعاون مع المستشارة الإبداعية تغريد العصفوري، عُرض للمرة الأولى في مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة في أبريل 2024، حيث نال جائزة لجنة التحكيم الخاصة وجائزة أفضل فيلم أورو-متوسطي (مناصفة)، كما فاز بجائزة أفضل فيلم مصري في مهرجان الإسكندرية لدول البحر المتوسط في أكتوبر 2025، وفاز مؤخرا بجائزة أفضل فيلم وثائقي في المهرجان المصري الأمريكي للسينما والفنون بنيويورك في نوفمبر 2025.
كما تم اختيار الفيلم للعرض ضمن فعاليات أيام القاهرة السينمائية في سينما زاوية، في يوليو 2024، واستمر عرضه هناك لمدة 14 أسبوعا بناء على الإقبال الجماهيري. وعُرض الفيلم كذلك في مكتبة آغا خان بلندن في 24 يونيو 2025.
وفي يناير هذا العام، اختار الأزهر الشريف الشيخ محمد عبد الله دراز كشخصية العام في معرض القاهرة الدولي للكتاب، وذلك احتفاء بهذا العالم الجليل.
انتشر أثر الفيلم بشكل واسع وأصبح هناك اهتمام جماهيري كبير لمعرفة من هو الشيخ محمد عبد الله دراز، خاصة مع تبنيه دعوة لنشر الدين الإسلامي القائم على التسامح والسلام، وهو ما أكده في مقولته: "إن الإسلام لا يتأنى لحظة واحدة عن مد يده لمصافحة أتباع كل ملة ونِحلة في سبيل التعاون على إقامة العدل ونشر الأمن وصيانة الدماء أن تسفك، وحماية الحرمات أن تنتهك".