«إيجيبت كلاي».. مشروع مصري يعيد للتربة الرملية أنفاسها

في سباقٍ لاهثٍ على حلولٍ سحرية تُنعِش الصحراء وتُنفِق عليها من خطاب الدعاية أكثر مما تمنحها من ماءٍ وحياة، برز مشروعٌ مصري هادئٌ ومثابرٌ شقَّ طريقه خارج الأضواء، وأعاد طرح السؤال من جذوره: كيف تتحول الرمال إلى تربةٍ تُمسك بالماء والغذاء وتمنح النبات فرصة عادلة للنمو؟ مشروع «إيجيبت كلاي» لحقن التربة الرملية بالسلت والطين جاء جوابًا عمليًا طويل النفس، بدأ بفكرة عام 2013، وجرى تثبيته عبر مراحل بحثٍ وتجريبٍ وتطبيق، حتى غيّر معادلة التعامل مع الأراضي الصحراوية، وكشف أن «النانو كلاي السائل» ليس أكثر من بريقٍ عابر لا يصمد أمام اختبار الحقل.
من الفكرة إلى التجريب: الحكاية تبدأ عام 2013
تعود الشرارة الأولى إلى عام 2013 داخل مركز بحوث الصحراء، حين طرح فريقٌ بحثي سؤالًا بسيطًا ونافذًا: لماذا لا تُستعاد للتربة الرملية قدرتها الطبيعية على الاحتفاظ بالماء والعناصر الغذائية، على نحوٍ يُشبه ما يحدث في أراضي الدلتا؟ جرى تحويل الفكرة إلى بحثٍ تطبيقي عام 2014، ثم حصدت دعمًا تمويليًا من مؤسسة «مصر الخير» عام 2017، لينطلق مسار التنفيذ على أربع مراحل متتابعة، راكمت المعرفة والخبرة ونتائج الحقل خطوةً بعد أخرى.
وقالت الدكتورة دينا أحمد، أستاذ بمركز بحوث الصحراء إنه «جرى منذ اللحظة الأولى الاتفاق على أن الاختبار الحقيقي سيكون في الأرض، لا في المعمل فقط، وأن كل نتيجة لن تُعتمد قبل أن تُقاس ميدانيًا».
رحلة البحث عن «الطين المصري»: غربلة المصادر وتثبيت البدائل
وأوضح الدكتور علي عبد العزيز، رئيس مشروع حقن التربة الرملية بالطين، أن المرحلة الأولى من المشروع ارتكزت على العثور على خامةٍ محليةٍ آمنةٍ وفعّالة، انطلقت فرق المسح إلى بحيرة ناصر بوصفها مصدرًا محتمَلًا، غير أنّ العمق الشديد الذي يبلغ نحو 180 مترًا، وكلفة الاستخراج والنقل العالية، إضافةً إلى هيمنة «الكاؤولينايت» ذي الخصائص غير الملائمة لتحسين التربة الرملية، كلها عوامل جرى توثيقها علميًا وانتهت إلى استبعاد هذا الخيار، وفي مسارٍ موازٍ، جرى تقييم نواتج تكريك الترع والمصارف، غير أن التحاليل أظهرت تشبّعها بالملوثات والعناصر الثقيلة وبذور الحشائش، ما جعل اعتمادها مجازفةً بيئيةً غير مقبولة في أراضٍ صحراوية بكر.
وأضاف عبد العزيز، أن الحلّ جاء من قلب الجيولوجيا المصرية: خاماتٌ طينيةٌ جافةٌ منتشرة في صحارى البلاد يمكن تكسيرها وطحنها لاستخلاص حبيبات السلت والطين حيث جرى حصرُ هذه الخامات وتحليلُها وتوقيعُها على خريطة مصر الجيولوجية، بهدف تحديد مواقعٍ مثلى لإقامة خطوط إنتاجٍ قريبةٍ من مناطق الاستصلاح، وتخفيض كلفة النقل إلى أدنى حد.
"قادر 1".. حين تتكلّم التكنولوجيا المصرية
وأضاف مدير المشروع أنه في المرحلة الثانية، انتقل الفريق من توصيف الخامة إلى تصنيع الأداة داخل مركز التنمية المستدامة لموارد مطروح، جرى إنشاء خط الإنتاج "قادر 1"، وهو أول منظومةٍ محلية لتحويل الصخور الهشّة إلى حبيبات سلتٍ وطينٍ قابلة للحقن في التربة، الخط زُوِّد بوحدةٍ متقدمة لاستخلاص الجزيئات النانوية من الطين (النانو كلاي)، بما يبرهن أنّ القدرة العلمية والتقنية على إنتاجها متاحة محليًا.
وتابع: أن القدرة على الإنتاج لا تعني الجدوى الزراعية، فبعد سلسلة تجاربٍ منضبطة في الحقل، جرى التثبّت من أنّ النانو كلاي لا يمنح عائدًا يبرر كلفته، بل قد يضيف تعقيداتٍ غير مرغوبة للتربة.
"الحقن".. سرّ الفاعلية في قلب منطقة الجذور
وقال الدكتور علي، إن المرحلة الثالثة دشّنت التحوّل الأهم: تطوير تقنية حقنٍ دقيقة تضخّ حبيبات السلت والطين إلى باطن التربة بعمقٍ يتوافق مع طبيعة المحصول؛ من 40 إلى 50 سنتيمترًا للمحاصيل الحقلية، وحتى 1.5 متر للأشجار، بهذه الآلية يجري احتجاز مياه الري والعناصر الغذائية داخل نطاق الجذور الفعّال، فتتراجع الفواقد ويزداد كفاءة الاستهلاك.
وأكد أن النتائج الميدانية التي وثّقتها فرق المشروع كانت لافتة: توفيرٌ في مياه الري تراوح بين 50 و60%، وتوفيرٌ في الأسمدة بين 35 و50%، إلى جانب قفزةٍ واضحة في إنتاجية المحاصيل وتحسّنٍ ملموس في الخصائص الفيزيائية والكيميائية للتربة.
وقال إنه جرى تصميم منظومة الحقن بحيث تُوزِّع السلت والطين داخل مصفوفة التربة توزيعًا ثلاثي الأبعاد، يمنع تكوين طبقاتٍ فاصلة ويضمن تواصل المسام، ما يعزّز التهوية والصرف ويُبقي الماء متاحًا للنبات حين يحتاجه».
لماذا يتلاشى «النانو كلاي» تحت الماء؟
على الضفة الأخرى من المقارنة، كُثّفت الاختبارات الميدانية لـ"النانو كلاي السائل" الذي يُسوَّق تجاريًا بوصفه حلًا سريعًا، التجارب كشفت مفاجآتٍ غير سارّة: الجزيئات الدقيقة تُغسل بسهولة مع مياه الري، وتتلاشى آثارها مع دورةٍ زراعية لاحقة؛ وفي حالاتٍ سجلتها الفرق البحثية، كوّنت هذه الجزئيات طبقةً صمّاء في الأعماق عرقلت الصرف وأضرّت بنمو الجذور، هذا ما أكدته الدكتور دينا أحمد، أستاذ بمركز بحوث الصحراء، قائلة: لهذه الأسباب جرى استبعاده من نطاق التطبيق فالنتيجة تشير إلى حلٍ سريع الزوال، مرتفع الكلفة، محدود الأثر، بينما احتاج الاستصلاح الصحراوي إلى عكس ذلك تمامًا: أثرٍ مستدام بتكلفةٍ عقلانية.
التخصيب والبراءات: صياغة تركيباتٍ صديقةٍ للبيئة
وتابعت إنه في المرحلة الرابعة، تحوّل المشروع من تحسين القوام وحده إلى بناء «تربةٍ مُخصَّبة» داخل التربة، جرى إغناء حبيبات السلت والطين بالعناصر الغذائية الطبيعية ونواتج تحلّل المخلفات الزراعية، ما أفضى إلى ثلاث تركيباتٍ بيئيةٍ جرى تسجيلها كبراءات اختراع لدى أكاديمية البحث العلمي. بهذه الخطوة، تعاظمت قدرة المنظومة على معالجة مشكلاتٍ متباينة: من تدهور التربة الرملية الخشنة، إلى ملوحة التربة وقلويتها، وصولًا إلى تثبيت الكثبان الرملية في مناطقٍ مهددة بالتصحر.
وأكد دينا، أنه جرى اختبار هذه التركيبات في بيئاتٍ مختلفة، ودُقِّقت مؤشراتُ الصرف والملوحة وتبادل الكاتيونات، وكانت الحصيلة ارتفاعًا في كفاءة استخدام الماء والغذاء مع انخفاضٍ في الاحتياجات التشغيلية.
منهجٌ واقعي وكلفةٌ قابلة للاستدامة
وأشار مدير المشروع إلى أن الفارق بين إيجيبت كلاي والنانو كلاي السائل لم يكن تقنيًا فقط، بل منهجيًا أيضًا، المشروع المصري انطلق من خاماتٍ محلية، ونَمَا على تكنولوجيا واقعية منخفضة الكلفة، وبُني على بنيةٍ إنتاجيةٍ قريبةٍ من مواقع الاستصلاح لتقليص النقل وتبعاته، في المقابل، يستند "النانو كلاي السائل" إلى استيراد مواد مرتفعة الثمن تُنفق كُلفتها على كل موسم، بينما يتلاشى أثرها سريعًا.
ماذا تعني الأرقام للمزارع؟
أكد مدير المشروع أن الأثر الميداني تُرجِم إلى معادلةٍ يفهمها المزارع فورًا: ماءٌ أقل، سمادٌ أقل، محصولٌ أكثر، وتربةٌ أكثر توازنًا، توفير 50–60% من مياه الري يعني دورات ريٍّ أقصر وكُلفة تشغيلٍ أدنى؛ وتوفير 35–50% من الأسمدة يعني فاتورةً أخفّ وأثرًا بيئيًا أنظف؛ أما الزيادة الإنتاجية فتعني هامش ربحٍ أوسع يبرّر الاستثمار الأولي في الحقن.
خرائط جيولوجية تُرشد الحركة
إحدى نقاط القوة التي ميّزت "إيجيبت كلاي" تمثّلت في استخدام الخرائط الجيولوجية لرسم شبكة إمدادٍ قصيرة المسافات، «جرى تحديد نقاطٍ مرشّحة لإقامة خطوط إنتاجٍ إضافية تخدم محافظاتٍ مختلفة بأقل تكاليف نقل"، يشرح خبير الجيولوجيا بالمشروع، «وكلّ موقعٍ يُقيَّم وفق جودة الخام، وقربه من مناطق الاستصلاح، وسهولة الوصول، والبصمة الكربونية للنقل»، بهذه المقاربة تغدو المنظومة قابلةً للتوسع الذكي دون عبءٍ لوجستي خانق.








