رئيس التحرير
أحمد ناصف
رئيس التحرير
أحمد ناصف

الإجراءات الجنائيَّة.. أمر لو تعلمون عظيم

نشر
مستقبل وطن نيوز

قد يظن البعض أن قانون الإجراءات الجنائية مجرد نصوص تنظيمية أو تفاصيل شكلية في مسار الدعوى، لكنه في الحقيقة العمود الفقري للعدالة الجنائية كلها. فهو الذي يحدد كيف تحرك الدعوى،  وكيف يحقق مع المتهم، وما هي حقوقه وضماناته، وكيف تدار المحاكمة وصولا إلى الحكم، ومن ثم فإن أي خلل في هذه الإجراءات لا يمس فقط بنية القانون، بل ينعكس مباشرة على حرية  الإنسان وكرامته وثقة  المجتمع في عدالة الدولة.

وبالتالي لم يكن اعتراض السيد الرئيس عبدالفتاح السيسي رئيس الجمهورية على بعض مواد قانون الإجراءات الجنائية الجديد مجرد ممارسة شكلية لحق دستوري، بل خطوة عميقة المعنى، تعكس إيمانًا راسخًا بأن العدالة لا تُبنى إلا على أساس من التوازن بين مقتضيات إنفاذ القانون وضمانات الحرية.

ويكتسب هذا الاعتراض الرشيد أهمية مضاعفة إذا ما علمنا أن قانون الإجراءات الجنائية الحالي مضى عليه ما يقارب 150 عامًا، شهد خلالها سلسلة من الترقيعات – أقصد- التعديلات – التي لم تُحقق التحديث الشامل المطلوب، مما جعله في كثير من مواده غير مواكب لمتغيرات العصر ولا منسجمًا مع نصوص الدستور الحديث. ومن هنا جاءت الحاجة الملحة إلى صياغة قانون جديد يليق بمصر الحديثة.

وفي هذا الإطار، بذل  مجلس النواب برئاسة المستشار الدكتور حنفي جبالي جهدًا تشريعيًا عظيمًا، حيث خاض مناقشات مستفيضة، وفتح أبوابه لجلسات استماع موسعة شارك فيها ممثلو جميع الهيئات والجهات القضائية، والنقابات المهنية، وعلى رأسها نقابة المحامين في صورة غير مسبوقة من الحوار المؤسسي، حرصًا على أن يخرج القانون الجديد محكمًا ومتوازنًا.

ومن خلال متابعتي لجلسات مجلس النواب واجتماعات لجنة الشؤون الدستورية والتشريعية لمشروع القانون الجديد، يمكن رصد عدد من الملامح المميزة التي عكست روحًا جديدة في الصياغة التشريعية، إذ حرص المُشرع على تعزيز ضمانات حقوق المتهم في جميع مراحل الدعوى الجنائية بما يتوافق مع الدستور والمعايير الدولية، كما أدخل آليات حديثة للتقاضي من خلال التوسع في استخدام التكنولوجيا ووسائل الاتصال الحديثة، الأمر الذي يضمن سرعة الفصل في القضايا دون الإخلال بحقوق الدفاع. ولم يغفل المشروع التوازن الدقيق بين حماية المجتمع وصون حرية الأفراد، حيث وسّع نطاق بدائل الحبس الاحتياطي، وعالج واحدة من أبرز المشكلات العملية التي عانى منها آلاف المواطنين لعقود طويلة وهي أزمة تشابه الأسماء، عبر تطوير قواعد البيانات والتحقق الدقيق من الهوية، بما يحول دون وقوع ظلم على الأبرياء. كذلك اتجه المشروع إلى توحيد وتبسيط الإجراءات لتحقيق وضوح النصوص وسهولة تطبيقها، وإغلاق أبواب التناقض والاجتهاد المتضارب، مع تعزيز دور النيابة العامة في الإشراف على الضبط والتحقيق بما يرسخ مبدأ سيادة القانون ويعزز ثقة المجتمع في منظومة العدالة.

وقد تضمنت رسالة الرئيس السيسي إلى مجلس النواب إشادة واضحة بجهد البرلمان وما أبداه من حرص على إعلاء الدستور وصون الحقوق والحريات، وهو ما يعكس صورة راقية للتعاون بين السلطات، حيث يتكامل عمل الرئيس مع اجتهاد النواب ليخرج التشريع في أفضل صورة.

إن هذه اللحظة الفارقة تؤكد أن مصر تمضي بثبات نحو بناء دولة قانون حديثة، لا تكتفي بترقيع القديم، بل تؤسس لقوانين جديدة تُجسّد مبادئ العدالة وتواكب تطورات المجتمع. وما بين اجتهاد البرلمان واعتراض الرئيس، يولد تشريع جديد سيكون نموذجًا يُحتذى في الدقة التشريعية، وحماية الحقوق، وصون الحريات.

عاجل