الاحتفال بالمولد النبوي في مصر.. تقاليد روحانية وتراث شعبي متأصل عبر التاريخ

في الثاني عشر من ربيع الأول، تحل واحدة من أعظم المناسبات الدينية لدى المسلمين في العالم أجمع، وهي ذكرى المولد النبوي الشريف التي تستحضر لحظة فارقة في تاريخ البشرية بميلاد سيد الخلق محمد (صلى الله عليه وسلم) وتحيي في النفوس سيرته العطرة التي نقتدي بقيمها ورسالتها ومعانيها السامية، والتي إلى جانب بعدها الديني العظيم، فإن لها أبعادا ثقافية تمثلت في تنوع وتطور الاحتفال بها عبر الزمن، حتى أصبحت الاحتفالات بالمولد النبوي تقليدا روحانيا وثقافيا متأصلا خاصة في الهوية المصرية.
وحول التاريخ الثقافي والتراثي لاحتفالات المصريين بتلك المناسبة العظيمة، أكد خبير الآثار عضو لجنة التاريخ والآثار بالمجلس الأعلى للثقافة رئيس حملة الدفاع عن الحضارة المصرية الدكتور عبد الرحيم ريحان، أن مصر تنفرد عن سائر الدول الإسلامية في احتفالاتها بالمولد النبي الشريف، من خلال بعض المظاهر كعروسة وحصان المولد لإسعاد أطفالها والتي ترجع إلى العصر الفاطمي، ونتج عن ذلك تراث لامادي أصيل يستحق التسجيل بمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة "يونسكو"، باعتباره قيمة عالمية استثنائية خاصة بمصر.
وعن أصل عروسة وحصان المولد، قال الخبير الأثري، لوكالة أنباء الشرق الأوسط، إن هناك عدة آراء، ومنها أنهما تجسيد لأسطورة إيزيس وأوزوريس في شكل حصان المولد المستوحى من تمثال "حورس" راكبا الحصان ممسكا بالسيف ليقتل رمز الشر "ست" والذي صور على هيئة تمساح وفي شكل عروسة المولد وكرانيشها الملونة المستوحاة من جناح إيزيس الملون.
وأضاف "أن لكل من العروسة والحصان رمزية تؤكد تلاحم شعب مصر نسيج واحد، حيث كان يصنع المسيحيون والمسلمون حلوى المولد؛ ليحتفلوا سويا بالمولد النبوي، وكان المسيحيون متقدمين في صناعة السكر منذ إنشاء أول مصنع عام 1811، حيث أنشئت مصانع للسكر في أبي قرقاص وملوي بمحافظة المنيا".
وتابع بالقول "إن العصر الفاطمي شهد عملًا دؤوبا من قبل المسلمين لإحياء مصانع الحلوى بمدينة (أبو مينا) التي أغلقت أبوابها وصادف ذلك احتفالهم بالمولد النبوي الشريف، واستأنف العمال المسيحيون نشاطهم وصنعوا العروسة والفارس الممتطي للحصان كي يفرح بها أطفال المسلمين والمسيحيين بعيدا عن أي مدلولات دينية"، مشيرا إلى أنه تم تصنيع العروسة والحصان من الحلوى وخامات مختلفة في الاحتفال بالمولد النبوي الشريف وكانت احتفالات المولد قومية يحتفل بها كل شعب مصر بنسيجه الوطني مسلمين ومسيحيين.
وأشار "ريحان" إلى حرص الفاطميين على صناعة حلوى المولد، حيث قاموا بإنشاء مخازن الحلوى للاحتفاظ بها بعد تجهيزها وتوزيعها مجانا على الشعب قبل المولد النبوي بشهرين، لافتا إلى أنه عندما زادت الاحتياجات ظهرت محلات خاصة لبيع حلوى المولد التي كان يطلق عليها "العلاليق" لأنها كانت تعلق على أبواب المحلات التجارية في سوق مخصوص يسمى سوق "الحلويين"، ومن ثم أصبحت عادة سنوية مستمرة حتى يومنا هذا.
وأوضح أن الحملة الفرنسية رصدت احتفالًا بالمولد النبوي الشريف في الساحة الرحبة ببركة الأزبكية، حيث كانت تنصب السرادقات للدراويش وحلقات الذكر للمنشدين طوال الليل، وكان الخليفة الفاطمي يخرج راكبا حصانه ومن خلفه سيدة القصر في هودجها بموكب مهيب يبدأ من قصر الخلافة وحتى مشهد الحسين رضي الله عنه، ومن هذا الموكب قد تكون فكرة ظهور ما يعرف بحصان المولد وعروسة المولد، حيث صنع المصريون من السكر أشكالًا للحصان والعروسة الموجودة حتى الآن.
وحول أماكن الاحتفالات بالمولد النبي الشريف في تلك الفترة، أوضح الخبير الأثري، أن الاحتفال ارتبط بثلاثة أماكن هي قصر الخلافة والمشهد الحسيني في العصر الفاطمي والحوش السلطاني أو حوش الباشا في القلعة في العصرين المملوكي والعثماني و بركة الأزبكية أيام الحملة الفرنسية.
وحول مظاهر الاحتفال في العصر المملوكي والعثماني، لفت إلى أنها كانت تتمثل في إقامة السلطان خيمة بالحوش السلطاني في القلعة ذات أوصاف خاصة تسمى "خيمة المولد" ينصبها 300 شخص، ويوضع عند أبوابها أحواض من الجلد مليئة بالماء المحلى بالسكر والليمون وتعلق حولها الأكواب الفاخرة المصنوعة من النحاس الأصفر والمزينة بالنقوش الجميلة، وتربط تلك الأكواب بسلاسل من النحاس واستمرت إقامة هذه الخيمة حتى العصر العثماني، وفى الليلة الختامية للاحتفال يظهر المقرئون براعتهم في التلاوة بآيات الذكر الحكيم، فيتعاقب واحد تلو الآخر بالقراءة، وبعد صلاة المغرب تمد الحلوى المختلفة الألوان وفى صباح يوم المولد يوزع السلطان كميات من القمح على الزوايا.
وأوضح أن الحوش السلطاني أو حوش الباشا يقع حاليا في الطرف الجنوبي الغربي من الساحة الجنوبية لقلعة صلاح الدين، ويضم ثلاثة مبان هي قصر الجوهرة وسرايا العدل ومقعد قايتباي ككتلة واحدة، وشيد قصر الجوهرة في عهد محمد على باشا للاستقبالات الرسمية.
ولفت إلى أن شارع باب البحر في القاهرة، هو معقل صناعة حلوى المولد، حيث يضم الكثير من المصانع والورش المتخصصة في صناعة عروسة المولد، والذي يبدأ من ميدان باب الشعرية وينتهي في شارع كلوت بك بأول منطقة الفجالة القريبة من ميدان رمسيس، موضحا أن الشارع قد سمي بهذا الاسم نسبة لأحد أبواب القاهرة الذي كان متواجدا على النيل وقت أن كان يجري بميدان رمسيس.
ونوه إلى أن هناك اختلافا في صناعة الحلوى في الوقت الحالي، حيث تصنع بطرق مميكنة باشتراطات صحية أن يدون عليها تاريخ الإنتاج والصلاحية، كما تحولت العروسة المصنوعة من الحلوى إلى لعبة من البلاستيك واحتفظت بنفس المواصفات الخاصة بالشكل التراثي لعروسة المولد، وظهرت أشكال عصرية وجديدة ومستحدثة لعروسة المولد تجمع بين الموروث الثقافي العربي والثقافة العالمية، كما تتنوع المواد التي تصنع منها العرائس بين الخشب والزجاج والقماش ومؤخرا من البلاستيك والخيوط، وتطورت إلى أن أصبحت بلاستيكية وإلكترونية وكهربائية أيضا ومزينة بإضاءات مبهجة وملابس مختلفة، إلّا أن النسخة القديمة المصنوعة من السكر والحلوى ذات اللون الوردي تظل الأكثر شهرة وخلودًا في الذاكرة على مر الأجيال.
وحول آراء الرحالة والباحثين عن احتفالات المصريين بالمولد النبوي الشريف، أوضح ريحان، أن الرحالة الإنجليزي "مارك جرش" شهد المولد النبوي في مصر ووصف عروسة المولد بأنها متألقة الألوان وتوضع في صفوف متراصة ترتدي ثيابًا شفافة كأنها حقيقية، فيما تعجب الباحث الفرنسي "إدوارد ليم لين" من احتشاد المسيحيين لمشاهدة حلقات المنشدين حتى آذان الفجر وكأن مصر مجتمعة كلها، بداية من الأمير ولي العهد في سرادقه حتى المزارعين والعمال والصناع للاحتفال بالمولد النبوي.
وأشار إلى أن مؤسسات الدولة المصرية وعلى رأسها "الأزهر الشريف"، تحتفل بذكرى المولد النبوي من خلال تخصيص ندوات ودروس وخطب للحديث عن سيرة ومعجزات سيد الخلق محمد عليه الصلاة والسلام، لتذكير المسلمين بسيرته واستغلال ذكرى مولده في نبذ الخلافات والدعوة للتصالح وصلة الرحم.
وتقوم وزارة الأوقاف بعمل ندوات تثقيفية في المساجد طوال شهر ربيع الأول، فيما تنظم وزارة الثقافة عبر المجلس الأعلى للثقافة، ندوات واحتفالات وعروض فنية مرتبطة بالمناسبة، وتعرض المتاحف بوزارة السياحة والآثار قطعًا أثرية خاصة مرتبطة بالذكرى العطرة، إضافة إلى تنظيم ورش عمل عن صناعة الحلوى عبر التاريخ، كما تقوم وسائل الإعلام المختلفة بدعوة العلماء والمتخصصين للحديث عن التراث المرتبط بالذكرى، ويحيي الأهالي في صعيد ودلتا مصر الذكرى باستدعاء المنشدين المادحين في رسول الله حتى الفجر.