40 عامًا على رحيل الشيخ محمود علي البنا.. الصوت الملائكي

في قلب الريف المصري، في قرية شبرا باص بمحافظة المنوفية، كانت البداية التي كتبها القدر بمداد النذر والدعاء، خرج إلى الحياة في 17 ديسمبر 1926 طفل حملت معه أسرته أملًا نقيًا بعد سنوات من الحزن حيث لم يكن يعش لهم ولد، بادر والده لأداء صلاة الفجر ودعا الله أن يبارك فيه، وتعهد بأن يهبه للقرآن الكريم إذا ما كُتبت له الحياة، فكان اسمه محمود علي البنا، صوت اختارته السماء ليكون سفيرًا لكتاب الله بين الخلائق.
منذ نعومة أظفاره، أقبل الطفل على القرآن، فأتم حفظه في الحادية عشرة، وسرعان ما بدأت تتفتح عليه أبواب المحبة الإلهية، حين رأى فيه العلماء الصغار والكبار نبوغًا استثنائيًا، فاحتضنه الجامع الأحمدي بطنطا، وعلّمه شيخ القراءات إبراهيم سلام، الذي قال له بعد عامين من التعليم: "لقد أعطيتك كل ما عندي".
ولم تتوقف الرحلة، بل استكملت طريقها في القاهرة، حيث التقى بأساتذة المقامات وتعلّم على يد الشيخ درويش الحريري، أستاذ الموسيقى والمقامات، وهو الذي تتلمذ على يديه كبار فناني مصر، ليكون البنا جامعًا بين فن الترتيل ومقام الخشوع.
كان صوت الشيخ محمود البنا متفردًا، قادرًا على ملامسة أعماق النفوس، ينساب بين المقامات بتناغم لا يعرف التكلّف، ويختار الطبقة والدرجة المناسبة لمعاني الآيات، يفرّق فيها بين الرحمة والعذاب، وبين الوعد والوعيد، وبين الرجاء والخوف.
وبهذا الجمع بين الحُسن الصوتي والتعبير الدقيق عن معاني التنزيل، صار البنا مرجعًا ومدرسة قائمة بذاتها.
حين بلغ الثانية والعشرين، اعتمدته الإذاعة المصرية قارئًا، وكانت القلوب تهفو إليه. وفي كل يوم، كانت له مع القرآن خلوة ليلية، يتلو ويتدبر، ويملأ الليل سكينة، أما الفجر، فقد اعتاده رفيقًا، لا يتركه، حتى عندما نصحه ابنه بالنوم، أجابه بأنه يقرأ في هذا الوقت للملائكة، ولأن للصالحين أسرارهم مع أهل السماء، فقد توقّف صوته عن الخروج حين دُعي للقراءة لأول مرة في الحرم النبوي، وأدرك بفطرته النورانية أن الاستئذان من صاحب المقام ضرورة، فذهب إلى الروضة الشريفة وسلّم على النبي واستأذنه، ثم قرأ في اليوم التالي، فاهتزت القلوب وارتفعت الأصوات بالبكاء.
ارتبط اسم الشيخ البنا بمساجد مصر الكبرى، من مسجد عين الحياة إلى مسجد الرفاعي، إلى الجامع الأحمدي، وصولًا إلى مسجد مولانا الحسين، كما كان صوته يصدح في الحرمين الشريفين، والمسجد الأقصى، والمسجد الأموي، وطاف بعشرات الدول ناشرًا رسالة القرآن.
لم يكن مجرد قارئ، بل كان رجل موقف، عاش للقرآن ودافع عن أهله.
حين مرض أحد زملائه المقرئين ولم يجد مالًا لدواء، كان البنا هو من جمع كبار القراء وأسس نقابة لرعايتهم، لم يبحث عن منصب، بل اختار أن يكون نائبًا للشيخ عبد الباسط، مؤمنًا أن خدمته لأهل القرآن لا تحتاج إلا نية خالصة لله.
وقد نال تكريمًا يليق به، فمُنح وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى، لكنه ظل يرى أن الشرف الحقيقي هو أن يكون خادمًا لكلام الله، كما أرادت له جدته منذ كان رضيعًا.
وعلى مدار ربع قرن، كان قارئ مسجد سيدي أحمد البدوي، يملأ رحابه بالقرآن، رحل الشيخ محمود علي البنا في 20 يوليو 1985، لكنه بقي حيًا بصوته، بذكراه، بما زرعه من نور.