الخنساء الفلسطينية.. آلاء النجار الطبيبة التي ودّعت أبناءها الـ9 في غارة واحدة

في صباح الجمعة، الثالث والعشرين من مايو 2025، كانت الطبيبة الفلسطينية آلاء النجار ترتدي معطفها الأبيض، متجهة إلى دوامها المعتاد في مستشفى «التحرير» بمجمع ناصر الطبي في خان يونس، جنوب قطاع غزة، لم تكن تعلم أن هذا الصباح الملطخ برائحة البارود والرماد سيكون آخر عهْدها بوجوه أطفالها التسعة، وآخر مرة تسمع فيها ضحكاتهم.
آلاء النجار التي كرّست حياتها لعلاج أطفال القطاع الجريح طوال 18 شهرًا من الحرب المتواصلة، تحولت فجأة من طبيبة أطفال إلى أم مفجوعة فقدت دفعةً واحدة تسعةً من أبنائها العشرة، في قصف جوي إسرائيلي دمّر منزلها، ولم يُبقِ من أحلامها الصغيرة سوى الدمار، ومن ذكرياتها سوى الرماد.
قصف نزع الحياة من حضن أمها
في ظهيرة ذلك اليوم، وبينما كانت آلاء النجار تنقذ أرواحًا صغيرة في قسم الأطفال، دوّى انفجار في خان يونس، اتضح لاحقًا أنه صاروخ إسرائيلي سقط على منزلها، ليتحول المكان إلى مقبرة جماعية لأطفالها، الدفاع المدني انتشل تسع جثث لأطفال، بعضهم متفحمون، من تحت الأنقاض، وأكد أن المنزل المستهدف كان يعود للطبيبين آلاء وحمدي النجار.

وبينما نجا الطفل آدم، ذو السنوات العشر، مصابًا بجراح خطيرة، نقل والده الطبيب حمدي النجار إلى العناية المركزة بعد أن خرج حيًّا من تحت الركام، بجسدٍ محطم وروحٍ منهارة، فقد خلالها كل شيء، إلا القليل من الهواء.
تفاصيل الجريمة.. أعمارهم لم تتجاوز الـ12 عامًا
أسماء الأطفال الشهداء الذين ارتقوا في القصف كانت: يحيى، ركان، رسلان، جبران، إيف، ريفان، وسيدين، في حين بقي الطفلان لقمان وسيدرا تحت الأنقاض، بين أنقاض منزل كان يضج بالحياة، أكبرهم لم يتجاوز الثانية عشرة، وأصغرهم لم يُكمل بعد ستة أشهر من عمره.
لم تتمكن الأم من توديع أبنائها الراحلين، ولم تستطع أن تتعرف إلى جثامينهم المحترقة، كما روت شقيقتها سحر النجار، التي تعمل صيدلانية في غزة، قائلة: «كلهم أشلاء... كلهم متفحمون. أخبرت آلاء: (الأولاد راحوا).. فقالت بهدوء المفجوعة: (هم أحياء عند ربهم يُرزقون)».
دموع الأطباء وشهادات الصدمة
«وقفت آلاء خلفي وهي تتحامى بي، ترجوني أن يريها أحدهم ابنتها ريفان... كانت تظنها على قيد الحياة»، هكذا قال شقيق زوجها، في شهادة تصف مشهدًا يُدمي القلب، وتكشف عن لحظة عجز لم تكن فيها الأم سوى إنسانة مكلومة تتوسل نظرة وداع.
الطبيبة الإيطالية تيزيانا روجيو، المتطوعة في مستشفى ناصر، قالت إنها ليست المرة الأولى التي ترى فيها زميلًا يُكسر قلبه على طاولة العمل، لكنها لم تتخيل أن ترى طبيبة تتلقى جثث أطفالها التسعة، الواحد تلو الآخر، وهي لا تزال تزاول عملها، «هذا أمر لم نكن نريد أن نشهده».

الجراح البريطاني غرايم غروم قال لصحيفة "الجارديان": «أجريت عملية جراحية لطفل بدا أصغر من عمره، حملناه على الطاولة، واكتشفت لاحقًا أنه أحد أبناء آلاء»، وأوضح أن الأب، الطبيب حمدي، «لم يكن شخصية عامة، ولا ينتمي لأي فصيل».
من اختار البقاء... فاختطفه الموت
دقائق فقط فصلت بين توصيل حمدي النجار لزوجته إلى المستشفى وبين لحظة سقوط القذيفة التي مزقت حياة الأسرة، بحسب ما رواه الدكتور منير البُرش، المدير العام لوزارة الصحة، الذي أكد أن النجار «اختار البقاء في غزة رغم حصوله على فرصة للسفر»، لكنه آثر أن يكون بجوار مرضاه وبجوار أطفاله، إلى أن سبقه الموت إليهم.
نعي موجع وغضبٌ صامت
وزارة الصحة الفلسطينية نعت أبناء الطبيبة آلاء النجار وزوجها الطبيب حمدي النجار، قائلة: «بقلوب يعتصرها الألم، وبمشاعر إنسانية موجوعة، تتقدم وزارة الصحة، وكوادرها كافة، بأحرّ كلمات العزاء للطبيبة البطلة آلاء النجار، التي فقدت 9 من أبنائها في واحدة من أبشع الجرائم التي يرتكبها الاحتلال».
واعتبرت الوزارة أن ما جرى ليس استثناءً، بل حلقة في مسلسل استهدافٍ ممنهجٍ للطواقم الطبية وأُسرهم، هدفه كسر إرادة الصامدين.
أما الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، تقدم بخالص العزاء والمواساة إلى الأم والطبيبة الفلسطينية الصابرة المحتسبة، الدكتورة آلاء النجار، في استشهاد تسعة من أبنائها، وإصابة زوجها وولدها الوحيد المتبقِّي، واستشهد أبناء الطبيبة الفلسطينية آلاء النجار، جرَّاء القصف الصهيوني الغادر الذي استهدف منزلهم في قطاع غزة، في جريمةٍ مروعة تُجسِّد أبشع صور الإرهاب الذي يمارسه الاحتلال الصهيوني ضد شعبٍ أعزل، لا يملك إلَّا صموده وإيمانه.
وأكِّد شيح الأزهر، أنَّ مشهد هذه الأم الثابتة، وهي تستقبل جثامين أطفالها المتفحمة، بينما تُواصل أداء رسالتها الإنسانية بمجمع ناصر الطبي، يستصرخ الضمير العالمي، ويُعرِّي صمته المُريب، بل وتواطؤ بعض أنظمته في دعم الكيان الصهيوني ليمضي في جرائمه ومجازره، دون وازعٍ من إنسانية أو خجلٍ من التاريخ.
كما أكد شيخ الأزهر، أن هذه الجرائم لن تُطفئ جذوة الحق، ولن تُسقط حقوق الشعب الفلسطيني، أو تُثنيه عن تشبُّثه بأرضه، ولن تُنسي الأحرار في العالم فصول هذا الظلم الغاشم.
ويضرع شيخ الأزهر إلى الحقِّ -سبحانه وتعالى- أن يتغمَّد الشهداء بواسع رحمته، ويرفعهم في عليين، ويجعلهم ذُخرًا لوالديهم يوم العرض الأكبر، وأن يُنزل على قلوب والديهم سكينةً من عنده، ويُجزل لهما الأجر والمثوبة.
الجيش الإسرائيلي: نحقق في الأمر
من جهته، رفض الجيش الإسرائيلي التعليق على القصف من دون تحديد الإحداثيات الجغرافية، وقال في بيان إن خان يونس «منطقة حرب خطرة»، وإن «الادعاء بشأن إصابة مدنيين قيد المراجعة».
وأشار إلى أن طائراته قصفت أكثر من 100 هدف خلال اليوم نفسه، بما في ذلك «منشآت عسكرية وأنفاق وبُنى تحتية تابعة لمنظمات إرهابية»، وفق زعمه.