من ميت مرجا إلى قلوب الملايين.. وداعًا سلطان القراء الشيخ السيد سعيد

في صباح اليوم السبت 24 مايو 2025، غيّب الموت القارئ الكبير الشيخ السيد سعيد، أحد أبرز أعلام تلاوة القرآن الكريم في مصر والعالم الإسلامي، عن عمر ناهز 82 عامًا. وقد لُقّب في حياته بـ"سلطان القراء"، لما تميز به من صوت شجي وأداء مؤثر، جذب إليه القلوب وأبكى الأسماع على مدى عقود. برحيله، تفقد الساحة القرآنية صوتًا نادرًا ومدرسة فريدة في التلاوة، لطالما أثرت في الأجيال المتعاقبة من القراء والمستمعين.
البدايات.. من ميت مرجا إلى منابر التلاوة
وُلد الشيخ السيد سعيد عام 1943 في قرية "ميت مرجا سلسيل" بمحافظة الدقهلية، في أسرة بسيطة تتكون من تسعة أبناء. منذ نعومة أظافره، أظهر موهبة فريدة في حفظ القرآن الكريم، حيث أتم حفظه كاملاً في سن السابعة على يد الشيخ عبدالمحمود عثمان في كتاب القرية. بحلول سن التاسعة، بدأ في تلاوة القرآن في المساجد، مما لفت الأنظار إلى صوته العذب وقدرته الفريدة على الأداء. رغم الظروف الاقتصادية الصعبة التي أجبرته على ترك الدراسة في الصف الأول الإعدادي، إلا أن شغفه بالقرآن دفعه إلى مواصلة التعلم الذاتي والتلاوة، مما جعله أحد أبرز قراء مصر.
رحلة التعلم.. بين الكتاتيب والشيخ إبراهيم غنيم
بعد تركه للدراسة، سعى الشيخ السيد سعيد لتعلم القراءات والتجويد، فانتقل إلى قرية "الكردي" حيث أقام لمدة ثلاث سنوات مع الشيخ إبراهيم محمد غنيم. هناك، تعلم أصول القراءات والتجويد، بينما اكتسب المقامات الموسيقية سماعيًا دون دراسة أكاديمية، معتمدًا على موهبته الفطرية وحفظه السمعي. تميزت قراءته بالبساطة والتلقائية، دون تكلف أو تصنع، مما أكسبه محبة المستمعين واحترامهم.

من أول أجر إلى لقاء العمالقة
في بداية مسيرته، حصل الشيخ السيد سعيد على أول أجر له من التلاوة وكان ربع جنيه، مبلغ كبير بالنسبة لطفل في التاسعة من عمره. على مدار رحلته، واجه العديد من المواقف الطريفة، منها عندما طُلب منه التظاهر بأنه الشيخ عبدالباسط عبدالصمد في إحدى المناسبات، مما أدى إلى تفاعل كبير من الحضور بعد أن بدأ في التلاوة. كما التقى بالعديد من عمالقة التلاوة، مثل الشيخ مصطفى إسماعيل، الذي أشاد بصوته ومخارج حروفه، مما كان دافعًا كبيرًا له للاستمرار والتطور.
المدرسة الخاصة بين التقليد والإبداع
رغم تأثره بالعديد من القراء الكبار، إلا أن الشيخ السيد سعيد حرص على بناء مدرسته الخاصة في التلاوة، مبتعدًا عن التقليد المباشر. كان يرى أن لكل قارئ بصمته الخاصة، وأن التميز يأتي من الإبداع والتفرد في الأداء. مع ذلك، لم يمنعه هذا من الاستماع والاستفادة من تلاوات كبار القراء مثل الشيخ رفعت، والشيخ عبدالباسط عبدالصمد، والشيخ مصطفى إسماعيل، والشيخ محمد صديق المنشاوي، الذين كانوا مصدر إلهام له.
أثره في الأجيال بين الماضي والحاضر
كان يرى الشيخ السيد سعيد أن الجيل الحالي من القراء يفتقد إلى بعض الصفات التي كانت تميز الجيل السابق، مثل البساطة والتلقائية في الأداء، والارتباط العميق بالقرآن الكريم. ويؤكد أن القراء في الماضي كانوا يقرأون القرآن للقرآن ذاته، دون استعراض أو تكلف، وكانوا مثقفين في العلوم الدينية والدنيوية، مما كان ينعكس على تلاواتهم. مع ذلك، يثني على بعض القراء الحاليين مثل الشيخ ممدوح عامر، والشيخ محمود الشحات أنور، والشيخ الحجاج، الذين يرى فيهم امتدادًا لمدرسة التلاوة الأصيلة.

القراءات المفضلة.. سورة يوسف وعرفات
من بين السور التي كان يحب الشيخ السيد سعيد قراءتها، تبرز سورة يوسف، التي كان يطلبها منه الجمهور باستمرار في المناسبات المختلفة، ويعتبرها سببًا في شهرته الواسعة. كما كان يحب قراءة سورة الحج، خاصة عند آية: "فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ"، التي تبكيه وتذكره بعظمة الله وقدرته، وبمكانة عرفات في قلبه. وكان الشيخ السيد سعيد لا يحضر للقراءة مسبقًا، بل يعتمد على التلقائية والإلهام الإلهي عند بدء التلاوة.
رمضان والقرآن.. طقوس روحانية
في شهر رمضان، كان الشيخ السيد سعيد يحرص على قراءة الورد اليومي من القرآن الكريم، والاستمتاع بلمة الأسرة على الإفطار، ثم الذهاب لصلاة التراويح في المسجد. بعد الصلاة، يجلس مع بعض الأصدقاء، ويقضي معظم وقته إما في التلاوة أو في سماع القرآن الكريم. كان يعتبر رمضان فرصة للتقرب إلى الله، وتعزيز الروحانيات، والاستفادة من الأجواء الإيمانية التي تميز هذا الشهر الفضيل.

إرثٌ خالد وصوت لا يُنسى
بهذه المسيرة الحافلة بالعطاء والتميز، سيظل الشيخ السيد سعيد رمزًا من رموز التلاوة المصرية، وصوتًا من السماء يروي حكاية عشق لا ينتهي للقرآن الكريم. وبرحيله، يودع العالم الإسلامي قارئًا قلّ نظيره، لكنه يخلّف إرثًا من التلاوات التي ستظل تلامس القلوب وتحيي الأرواح كلما صدح بها صوت التسجيل.