رئيس التحرير
أحمد ناصف
رئيس التحرير
أحمد ناصف

العقوبات تخنق طموحات روسيا بتعزيز تصدير الغاز من القطب الشمالي

نشر
الغاز الروسي
الغاز الروسي

أثبت اقتصاد روسيا المحصن قدرته على الصمود بشكل ملحوظ في مواجهة هجمة العقوبات الغربية. فبعد عامين من غزو روسيا لأوكرانيا، يواصل الكرملين تمويل حرب مكلفة ودعم الرئيس فلاديمير بوتين. ولكن هناك مكان واحد على الأقل يظهر فيه التأثير القاسي لهذه العقوبات.

تعد منشأة "أركتيك إل إن جي 2" (Arctic LNG 2) الواقعة على بحر كارا الجليدي والتي تشغلها شركة "نوفاتيك" (Novatek)، جزءاً أساسياً من خطط موسكو لتعزيز الصادرات وتجديد خزائنها. ومنذ أشهر، كانت الشركة مستعدة لشحن الغاز الطبيعي المسال إلى أسواق جديدة، كبديل لتجارة الغاز عبر خطوط الأنابيب إلى أوروبا التي كانت مربحة يوماً ما.

العقوبات الأمريكية

مع ذلك، فإن العملية الضخمة الجديدة التي تبلغ كلفتها 25 مليار دولار لا تزال تراوح مكانها تقريباً، وهي أول وحدة من مجمع إنتاج الغاز في روسيا تنال منها القيود الأميركية بشكل فعال.

تسعى روسيا منذ فترة طويلة إلى زيادة حصتها في السوق العالمية للغاز الطبيعي المسال، لكن الحرب وما تلاها من انخفاض حاد في صادرات الغاز البرية إلى أوروبا، عززت أهمية هذه الطموحات. وتريد موسكو زيادة إنتاج الغاز الطبيعي المسال ثلاثة أمثال بحلول 2030، مما يزيد الإيرادات السنوية بما لا يقل عن 35 مليار دولار.

وروسيا حالياً هي رابع أكبر مصدر للغاز الطبيعي المسال في العالم بفضل العمليات القديمة، لكن القيود المفروضة على منشأة "أركتيك إل إن جي 2" الرائدة في القطب الشمالي تعيق تطلعات موسكو للمضي قدماً. والأكثر إثارة لقلق روسيا هو أنها قدمت نموذجاً لأي جهود غربية مستقبلية لكبح جماح دخل الكرملين من الغاز، من خلال استهداف عمليات مثل "يامال" أو "سخالين 2" في الشرق الأقصى، والتي لا تزال تزود العملاء في أوروبا وآسيا.

وقال مالتي همبرت، مؤسس معهد القطب الشمالي، الذي يراقب التوسع الروسي في المنطقة منذ أكثر من عقد إن "العقوبات الأميركية تحقق نجاحاً مدهشاً. هنا (في القطب الشمالي)، هم حقاً في الطليعة. لقد منعوا مشروع أركتيك إل إن جي 2 حتى قبل أن يبدأ الإنتاج، وأوقفوا السفن قبل أن يتسنى تسليمها. غير أن جميع التدابير الأخرى، مثل (سقف سعر) النفط أو (مطاردة) أسطول الظل، هي دائماً رد فعل".

عقوبات الاتحاد الأوروبي

ومنذ أن فرضت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن عقوبات على منشأة "أركتيك إل إن جي 2" العام الماضي، رفض المشترون في الصين والهند– الدولتين اللتين تشتريان النفط الروسي وتتاجران فيه، وتلتفان على القيود الحالية–شراء الغاز الطبيعي المسال حتى بسعر مخفض. وفي الوقت نفسه، تراجع المحامون في سنغافورة ولندن عن المشاركة في المشروع.

بل إن شركات بناء السفن طالتها هذه القيود، إذ توجد سفن تبلغ قيمتها مئات الملايين من الدولارات عالقة حالياً في الأحواض الجافة في كوريا الجنوبية. ولا يمكن لأحد أن يشتريها أو يستأجرها. وفي الوقت نفسه، لا يزال الغاز محتجزاً في المنشأة.

وعلى عكس صادرات النفط، التي استمرت في التدفق رغم تحديد سقف للأسعار والقيود الأخرى بمساعدة "أسطول الظل" الضخم، فإن مواصلة نقل الغاز الطبيعي المسال أكثر صعوبة، ويرجع ذلك إلى حد بعيد إلى التكنولوجيا الأكثر تعقيداً المطلوبة لتحميل الوقود الفائق التبريد وشحنه.

والآن يستعد الاتحاد الأوروبي، الذي لا يزال يعتمد على الغاز الطبيعي المسال الروسي، لطرح بعض التدابير الخاصة به بعد أن كان متردداً في تقييد الواردات. ولا تحظر أوروبا الغاز بشكل صريح، لكن مناقشات الكتلة تشير إلى أن الغاز لم يعد بمنأى عن طاولة العقوبات مع دخول الحرب عامها الثالث.

ومن بين القضايا المطروحة للنقاش خطة لحظر استخدام موانئ الاتحاد الأوروبي لإعادة تصدير الإمدادات الروسية المتجهة إلى دول ثالثة. وهذا مهم لأن مصانع الغاز الطبيعي المسال الروسية في منطقة القطب الشمالي بعيدة للغاية، لذلك عادة ما يتم تسليم الوقود أولاً إلى بلجيكا أو فرنسا لإعادة تصديره إلى آسيا أو أي ميناء أوروبي آخر. وسيوصل تقييد هذه الممارسة أسطول الشحن الروسي إلى نقطة الانهيار.

تأثيرات محدودة على سوق الغاز

بدأ مجلس الأمن القومي التابع للبيت الأبيض في تحويل اهتمامه إلى تعطيل خطط توسع روسيا في الغاز الطبيعي المسال في 2023، أي بعد مرور عام تقريباً على الحرب، وفق أشخاص مطلعين على الاستراتيجية. وقد تعاون مسؤولو المجلس مع وزارتي الخارجية والدفاع الأميركيتين لاختيار هدف، وفي نهاية المطاف ركزوا على مشروع "أركتيك إل إن جي 2". ثم قدموه إلى وزارة الخزانة.

والآن، وفي إطار خطة أوسع لمنع روسيا من تطوير أي مشروعات طاقة جديدة قد تدر عليها إيرادات كبيرة، تريد الولايات المتحدة التأكد من أن مشروع القطب الشمالي "فشل"، كما قال جيفري بيات، مساعد وزير الخارجية لشؤون موارد الطاقة، في مؤتمر الشهر الماضي.

وثمة أسباب وجيهة تدفع مسؤولي البيت الأبيض إلى استهداف المنشأة، التي تشارك في ملكيتها الحكومة اليابانية وشركات نفط صينية مملوكة للدولة وشركة "توتال إنرجيز" الفرنسية. وفي حين أن ذلك يثير بالتأكيد غضب حلفاء مهمين، فإن تجميد مشروع "أركتيك إل إن جي 2" له فائدة في الإضرار بموسكو، بينما لا يسبب سوى تأثيرات محدودة في أسواق الغاز الطبيعي العالمية. وليس أقل أهمية بالنسبة لإدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن مع اقتراب الانتخابات، احتواء تداعيات ذلك على المستهلكين الأمريكيين.

وهناك مزايا أخرى لواشنطن. فتجارة الغاز الطبيعي المسال تتطلب سفناً متخصصة باهظة الثمن يمكن تتبعها باستخدام بيانات الأقمار الاصطناعية، مما يجعل إنشاء أسطول بديل شبه مستحيل. وفي حين أن هناك ما يقرب من 7500 ناقلة نفط بأحجام مختلفة حالياً، فإن صناعة الغاز الطبيعي المسال بأكملها لديها قرابة 700 ناقلة.

عقبات لوجستية

ثم هناك حقيقة أن مشروع "أركتيك إل إن جي 2" يتطلب نوعاً فريداً من السفن التي يمكنها الانزلاق عبر الجليد السميك. وقد تم طلب 21 ناقلة من هذا الطراز للعملية، بما في ذلك سفن مملوكة لشركة "هانوا أوشن" (Hanwha Ocean) الكورية الجنوبية و"ميتسوي أو إس كيه" (Mitsui OSK). وتجد هذه صعوبةً في العثور على مالكين جدد. وبطبيعة الحال، تستطيع روسيا جلب قدرة النقل الخاصة بها، إذ تبنى ناقلات الغاز الطبيعي المسال في حوض بناء السفن في زفيزدا، ولكن حتى تلك السفن قد تأخرت بسبب العقوبات.

وقال ثين جوستافسون، الأستاذ في جامعة "جورج تاون" والذي يراقب توسع الوقود الأحفوري في روسيا منذ عقود، إن "أكبر عائق أمام تطوير مشروع "أركتيك إل إن جي 2" هو توافر الناقلات. "هذه هي نقطة الضعف في الاستراتيجية الروسية الشاملة".

وأضاف أن "التوقعات على المدى الطويل تخيم عليها حقيقة أن المهمة الأساسية، والتي كانت تتمثل في تطوير الغاز الطبيعي المسال لشرق آسيا عبر طريق بحر الشمال، غير ممكنة في هذه اللحظة".

وتملك روسيا أكبر حصة في العالم من الغاز الطبيعي، بنحو 20% من الاحتياطيات المؤكدة، لكنها لا تزال بحاجة إلى تحويل ذلك إلى إيرادات. ببساطة، لا تُمد خطوط الأنابيب الجديدة بالسرعة الكافية لإعادة توجيه المبيعات، ولم يتبق سوى الغاز الطبيعي المسال-الذي حدده بوتين نفسه باعتباره مستقبل الوقود.

ويقول الكرملين إنه يريد تصدير أكثر من 100 مليون طن من الغاز الطبيعي المسال سنوياً بحلول 2030، ارتفاعاً من نحو 31 مليوناً العام الماضي- في ظل عقوبات أو بدونها. ولا يعد مشروع "أركتيك إل إن جي 2" هو المشروع الأول الذي يتعرض للقيود، وقد حفزت القيود المفروضة على نقل التكنولوجيا ومعدات التنقيب عن المحروقات في 2014 بعض البدائل المحلية.

ركود محتمل في الإنتاج

ومع ذلك، بدأت الحكومة في إدراك حجم التحدي مع تراكم العقوبات وإثبات بطء نقل التكنولوجيا. وتشير الأرقام الواردة في وثيقة وزارة الاقتصاد التي نُشرت في وقت سابق من هذا العام واطلعت عليها بلومبر[، إلى أن الإنتاج قد يشهد ركوداً في الواقع حتى 2027 في ظل سيناريو متحفظ، وهي المستويات التي قد تشير ضمناً إلى أن مشروع "أركتيك إل إن جي 2" قد لا يعوض النقص سريعاً.

ولم يتوقع أي من المتعاملين والمحللين الذين استطلعت بلومبرغ آراءهم أن المنشأة-التي اكتمل بناؤها فقط (وبدأت) واحدة من وحدات الإنتاج الثلاث (العمل)-ستصل إلى طاقتها الكاملة بينما تظل العقوبات سارية.

وتستمر "نوفاتيك"، الشركة التي تقف وراء كل ذلك، في المضي قدماً. ونجح المؤسس ليونيد ميخلسون، رابع أغنى شخص في روسيا وحليف بوتين المقرب، في إكمال بناء المرحلة الأولى من مشروع "أركتيك إل إن جي 2" العام الماضي، متحدياً توقعات الصناعة بأن التكنولوجيا المفقودة ستعيقه. وتسنى بناء سلاسل توريد جديدة بعد أن غادرت شركات مثل شركة "تكنيب إنرجيز (Technip Energies)" الفرنسية المشروع، مع جلب قطع الغيار والمعدات من الصين.

وقال ميخلسون في المنتدى الاقتصادي الأوراسي السادس عشر في فيرونا في نوفمبر، بعد قليل من فرض العقوبات على المشروع: "حقيقة أننا أصبحنا هدفاً للعقوبات هي إشارة إلى كيفية تقييمهم كفاءاتنا".

عاجل