رئيس التحرير
أحمد ناصف
رئيس التحرير
أحمد ناصف

ما حكم التشهير بذنوب الناس وإفشاء أسرارهم؟.. دار الإفتاء تجيب

نشر
حكم إفشاء أسرار الناس
حكم إفشاء أسرار الناس

التشهير بذنوب الناس وإفشاء أسرارهم هو ما يتناوله البعض على وسائل التواصل الاجتماعي بكثرة هذه الأيام، في حين لا يعلم الكثيرون حكم التشهير بذنوب الناس وإفشاء أسرارهم.

وإلى دار الإفتاء ورد سؤال يتعلق بـ حكم التشهير بذنوب الناس وإفشاء أسرارهم، وأجاب عنه الدكتور شوقي علام مفتي الديار المصرية باستفاضة على الموقع الرسمي لـ"الإفتاء" وهو ما سوف نتناوله في سياق التقرير التالي:

حكم التشهير بذنوب الناس وإفشاء أسرارهم

سأل أحدهم: ما حكم تناول سيرة الشخص الذي يرتكب المعاصي بقصد الشويه والتشهير؟

وأجاب الدكتور شوقي علام على سؤال يتعلق بـ حكم التشهير بذنوب الناس وإفشاء أسرارهم قائلا: مَن ابتُلي بمعصيةٍ عليه أن يستُر على نفسه ويستغفر الله منها ويتوب إليه ولا يُخبر بها أحدًا؛ فإنْ أسرَّ بذنبه ومعصيته إلى شخص آخر- فلا يجوز لهذا الشخص الآخر أن يكشفَ سرَّه لغيره  للتشهير به، ويُعَدُّ ذلك من الغيبة المحرمة شرعًا؛ لأنَّ فيه ذكر الشخص بما يكره أن يُذكَر به.

ويُستثنى من ذلك ما تقتضيه الضرورة لإباحة هذا السر وكشف ذاك المستور، كما وضَّح العلماء؛ مثل الاحتياج  إلى ذلك في باب القضاء أو الإفتاء أو الاستشارة لضرورة الإخبار بحقيقة الأمر.

وأضاف: لا شكَّ أنَّ مقارفة الذنوب والوقوع في المعاصي ليس ببعيد عن الطبيعة الإنسانية؛ فكل إنسان مُعرَّض لشيء من ذلك قلَّ أو كثُر، ولكن الإصرار على الذنوب وعدم التوبة منها وخيم العواقب سيئ الآثار في الدنيا والآخرة؛ قال تعالى: ﴿فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ ٱللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [العنكبوت: 40].

وعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: «كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ». أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه.

وممَّا يعظُم به الذنب أن يتمّ المجاهرة به، بأن يرتكبَ العاصي الذنب علانية، أو يرتكبه سرًّا فيستره الله عزَّ وجلَّ لكنَّه يُخبر به بعدَ ذلك مستهينًا بسِتْر الله له؛ فعن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا الْمُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ الإِجْهَارِ أَنْ يَعْمَلَ الْعَبْدُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا ثُمَّ يُصْبِحُ قَدْ سَتَرَهُ رَبُّهُ فَيَقُولُ: يَا فُلَانُ قَدْ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ فَيَبِيتُ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللهِ عَنْهُ» متفق عليه.

والمراد بالمجاهرة هنا مَنْ يعلن فعله بالمعصية ويشتهر بها؛ يقول العلامة زين الدين عبد الرؤوف المناوي الشافعي في "فيض القدير" (5/ 11، ط. المكتبة التجارية الكبرى): [(إلا المجاهرين)؛ أي: المعلنين بالمعاصي المشتهرين بإظهارها الذين كشفوا ستر الله عنهم] اهـ.

وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قام بعد أن رجم الأسلمي فقال: «اجْتَنِبُوا هَذِهِ الْقَاذُورَةَ الَّتِي نَهَى اللهُ عَنْهَا، فَمَنْ أَلَمَّ فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللهِ وَلْيَتُبْ إِلَى اللهِ، فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِ لْنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ عَلَيْهِ كِتَابَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ» أخرجه الحاكم والبيهقي بإسناد جيد، عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا. وأخرجه مالك في الموطأ عن زيد بن أسلم مرسلًا؛ والمقصود بالقاذورات: كل قَول أَو فعل يُستَفْحَش ويُستَقْبَح من المعاصي.

فعلى مَن ابتُلي بمعصيةٍ ألَّا يُخبر بها بل يُسرّها ويستغفر الله منها ويتوب إليه؛ فإنْ فعلها ثم أسرَّ بها إلى شخص آخر؛ فلا يجوز لهذا الآخر أن يكشفَ سرَّه ليشهر به، ولا يجوز لمَنْ استؤمن على شيء أن يكشفه لغيره؛ قال تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء: 34]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ» متفق عليه، وعن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ رضي الله عنه قال: قال رسول اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ مِنْ أَشَرِّ النَّاسِ عِنْدَ اللهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الرَّجُلَ يُفْضِي إِلَى امْرَأَتِهِ وَتُفْضِي إِلَيْهِ، ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا» أخرجه مسلم.

ويُعَدُّ ذلك من الغيبة المحرمة؛ لأنَّ فيه ذكرًا للشخص بما يكره أن يُذكَر به، قال شيخ الإسلام النووي الشافعي في "الأذكار" (ص: 535، ط. ابن حزم): [فأما الغيبة: فهي ذِكرُك الإنسان بما فيه ممَّا يكره، سواء كان في بدنه أو دينه أو دنياه أو نفسه أو خَلْقه أو خُلُقه أو ماله أو ولده أو والده أو زوجه أو خادمه أو مملوكه أو عمامته أو ثوبه أو مشيته وحركته وبشاشته وخلاعته وعبوسه وطلاقته أو غير ذلك ممَّا يتعلق به؛ سواء ذكرتَه بلفظك أو كتابك أو رمزت أو أشرت إليه بعينك أو يدك أو رأسك أو نحو ذلك] اهـ.

والغيبة من الكبائر المحرمة التي توافرت النصوص الشرعية في الكتاب والسنة في الدلالة على حرمتها والتنفير منها ومن مظاهرها؛ ومن ذلك قوله تعالى: ﴿وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا ٱللهَ إِنَّ ٱللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ﴾ [الحجرات: 12]، وما رواه أَبو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟» قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ». قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ، قَالَ: «إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ». أخرجه مسلم.

وذكر الإمام القرطبي المالكي أنَّه لا خلاف بين العلماء في تحريم الغيبة، قال في "الجامع لأحكام القرآن" (16/ 337، ط. دار الكتب المصرية): [لا خلاف أنَّ الغيبة من الكبائر، وأنَّ مَن اغتاب أحدًا عليه أن يتوبَ إلى الله عز وجل] اهـ.

هذا، وقد قرَّر العلماء أنَّ المُجَاهِر بالذنب المشتهر به لا غيبة له بخلاف المستتر بالذنب؛ قال حجة الإسلام أبو حامد الغزالي في "إحياء علوم الدين" (3/ 153، ط. دار المعرفة): [والمجاهر بشرب الخمر ومصادرة الناس وكان ممَّن يتظاهر به بحيث لا يستنكف منْ أن يُذكر له ولا يكره أن يُذكر به؛ فإذا ذكرتَ فيه ما يتظاهر به فلا إثم عليك؛ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ أَلْقَى جلبابَ الحَياء عن وجهِهِ فَلَا غِيبَةَ له» وقال عمر رضي الله عنه: "ليس لفاجر حرمة" وأراد به المُجَاهِر بفسقه دون المستتر؛ إذا المستتر لا بدّ من مراعاة حرمته] اهـ.

وذِكر ما فعله المجاهر بذنبه للآخرين بغرض التحذير منه جائز شرعًا؛ لوجود المقتضِي لذكره، كسؤال شخص عنه لمعاملته؛ فيجوز للمسئول أن ينقل ما جاهر هذا العاصي بفعله إن كان في ذلك نصح للسائل، وقد ذكر العلماء عدة حالات تباح فيها الغيبة؛ لوجود المقتضي وغلبة المصلحة على المفسدة، قال شيخ الإسلام محيي الدين النووي في "رياض الصالحين" (ص: 425-226، ط. دار ابن كثير): [اعلم أنَّ الغيبة تباح لغرض صحيح شرعي لا يمكن الوصول إليه إلا بها، وهو ستة أسباب: 

الأول: التظلم، فيجوز للمظلوم أن يتظلم إلى السلطان والقاضي وغيرهما ممَّن له ولاية، أو قدرة على إنصافه من ظالمه، فيقول: ظلمني فلان بكذا.

الثَّاني: الاستعانة على تغيير المنكر، وردّ العاصي إلى الصواب؛ فيقول لمَن يرجو قدرته على إزالة المنكر: فلان يعمل كذا فازجره عنه، ونحو ذلك، ويكون مقصوده التوصل إلى إزالة المنكر، فإنْ لم يقصد ذلك كان حرامًا.

الثَّالثُ: الاسْتِفْتَاءُ؛ فيقول للمفتي: ظلمني أبي، أو أخي، أو زوجي، أو فلان بكذا، فهل له ذلك..؟

الرَّابعُ: تحذير المسلمين من الشر ونصيحتهم..

الخامِسُ: أن يكون مجاهرًا بفسقه أو بدعته كالمجاهر بشرب الخمر.. فيجوز ذكره بما يجاهر به؛ ويحرم ذكره بغيره من العيوب، إلا أنْ يكون لجوازه سبب آخر ممَّا ذكرناه.

السَّادِسُ: التعريف؛ فإذا كان الإنسان معروفا بلقبٍ، كالأعمش، والأعرج، والأصم، والأعمى، والأحول، وغيرهم جاز تعريفهم بذلك، ويحرم إطلاقه على جهة التنقص، ولو أمكن تعريفهم بغير ذلك كان أولى، فهذه ستة أسباب ذكرها العلماء وأكثرها مُجْمَعٌ عليه، ودلائلها من الأحاديث الصحيحة مشهورة] اهـ.

فالتشهير بمرتكب المعصية وذكر مساوئه لغير غرض من الأغراض التي تباح لها الغيبة يندرج في الغيبة المحرمة؛ كما لو ذكر عنه شيئًا من المعاصي غير ما جاهر به، ولا يجوز أن يذكر الشخص الذي ارتكب المعصية وأعلن بها لمجرد تشويه سيرته عند شخص آخر؛ لأنَّ هذا من الغيبة المحرمة؛ لأنَّ القصد هنا ليس النصح والتحذير، بل مجرد التشهير وتشويه سيرة المذنب.

قال الإمام أبو سعيد الخادمي في "بريقة محمودية في شرح طريقة محمدية" (3/ 187، ط. مطبعة الحلبي): [إنما الغيبة أن يذكر مساوئ أخيه على وجه الغضب يريد به السبّ] اهـ؛ فالمراد بإرادة السبّ هنا هو مجرد تشويه السيرة وليس لمصلحة تقتضي ذكر ذلك عنه.

والستر على المُخطئ لمنحه الفرصة للعدول عن خطئه وسلوكه السيئ أمر يحبه الله سبحانه وتعالى؛ فعَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ رضي الله عنه: أَنَّ رسول اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ حَيِىٌّ سِتِّيرٌ يُحِبُّ الْحَيَاءَ وَالسَّتْرَ» أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي.

 

عاجل